السلام عليكم
اليوم
وبما أنه يوم خميس ولم تكن عندي التزامات
فقد قمتُ باستغلاله لتنظيم دفاتري وكتبي وكل حاجيَّاتي
^_^
ووجدتُ الكثير من الأشياء التي ذكرتْني ببعض الذكريات
منها الذكريات الجميلة والرائعة
ومنها ماهو عكس ذلك تماما
ومن بين تلك الأشياء
وجدتُ وريقات مصورة من محضر النيابة العامة
فتذكرتُ تلك الواقعة التي حدثتْ لي في مثل هذه الأيام من شهر (12) قبل أربع سنوات
تذكرتها بكامل تفاصيلها وجزئياتها
كيف أنساها وقد كُتِبَ لي فيها عمر جديد
وتعلمتُ منها دروسا وعبرا ستبقى عالقة في ذِهْني إلى آخر العمر
ففي هذا الشهر عام 2005 سافر أبي في مهمة من قبل شركته خارج البلاد لمدة شهر
وأوكل لي قبل ذهابه في المطار مهمة الإهتمام بأمور البيت كاملة والإهتمام بإخوتي
كيف لا .. وأنا ابنه البِكْر وإخوتي يصغرونني بكثير
وكمْ كان حِملا ثقيلا جدا
عرفت خلاله ما كان يتحمله أبي من مسئوليات لا حصر لها
فهي ليست مجرد طلبات منزل
بل اجتمعتْ عليّ أمور كثيرة في وقت واحد
فأنا آنذاك كنتُ في فترة امتحانات نهائية في الجامعة
وإخوتي يحتاجون لمن يدرسهم في امتحانات الفترة الأولى
وكنا فاتحين معمل للحلويات
يحتاج لإحضار المواد من زيت وسكر وزبدة و .. إلخ ويحتاج لرفع الطلبيات إلى المحلات
وكان لدينا أيضا محل مواد غذائية يجب أن تهتمّ به وتحضر ما ينقص من مواد
هذا عدا طلبات المنزل العادية الأخرى وأرفع هذا وجيب هذا
يعني باختصار " تشحوير على أصوله "
مرتْ أيام وانا على هذه الحالة
حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم
ذلك اليوم الذي توقفتْ فيه عقارب الساعة بالنسبة لي
فبعد أن أحضرتُ أخي من المدرسة وقمتُ معه بجولة معتادة لإحضار الطلبات
وكنتُ عائدا إلى المنزل وفي رأسي يدور ستين موّال لأمور يجب فعلها
وكنتُ كعادتي أقود السيارة بسرعة عالية " ويا لها من عادة قبيحة "
وفجأة .. وفي رمشة عين
لم أدرِ بنفسي إلا وأنا أُفاجأُ بسيارتين أمامي يسدان الطريق
وبدون وعي لأتفادى الإصطدام كسرتُ مقود السيارة يمينا ويسارا وفقدتُ تماما السيطرة عليها
لم أسمع إلا أصوات ارتطام السيارة بكل ما قابلها من حوائط وأعمدة والغبار يتناطر
وبعد برهة توقفتْ السيارة !!
وجدتُ نفسي لم أفقد الوعي ولم يحدث لي شيء اللهم إلا ألم شديد في ركبتي وجرح بسيط في رأسي
نظرتُ جانبا إلى أخي وجدته أيضا لم يحدث له شيء
حاول أخي الخروج من السيارة فلم يستطع ففتح النافذة وخرج ففعلتُ مثله
وعند خروجي رأيتْ السيارة وقد أصبحت مثل حكة البيبسي المهشمة
وبعدها سمعتُ الأصوات بدأتْ تعلو وأناس كثر يحضرون ماذا حدث؟!
لكنهم لم يلتمّّوا حولي بل كانوا يجتمعون على بعد أمتار مني
ما الذي حدث ؟ لم أفهم شيئا وبدأت لا أرى شيئا
كنتُ أسمع أصواتا تقول :
أرفع يا فلان بسرعة شكله مات .. بسرعة إنت وإياه الولد بيموت بين إيدينا
هنا .. لم يعُدْ الدم يجري في عروقي .. وصوت يدَوِّي في عقلي
أيُّه المعتوه .. لقد صدمتُ أحدهم .. أنت قاتل .. قاتل
شُلَّ تفكيري ولم أعرف ما فعلت
ولا ماذا سأفعل؟!
أخذوني بعدها لأسلم نفسي لمركز المرور
وأنا لا أعرف كيف حدث معي هذا في لمح البصر .. ولا ماهو مصيري ومصير الشاب الذي صدمته
طلب مني الضابط أن أصف له الحادث
فلم أقْوَ حتى على الكلام
فقط كنت أقول له : رجاء أخبرني ماذا حدث للشاب الذي صدمته؟!
كنتُ مذهولا من هوْل الصدمة .. ولن أستطيع أن أصف مشاعري تلك اللحظة
ذهب الضابط إلى موقع الحادث وأخذ ما يريده وبقيت أنا محجوزا
ولم يجبني أحد على السؤال الذي كنت أردده
ماذا حدث لذلك الشاب؟
وبعد ساعات من الإنتظار في أوقات هي أشد قسوة في حياتي
ممزوجة بين الخوف والندم والدعاء
جائني أخيرا ذلك الضابط وبشرني بأن الشاب الذي صدمتُه لم يمت واستيقظ من الغيبوبة
يا له من خبر ويا لها من فرحة .. في تلك اللحظة فقط عادت الدماءُ لتجريَ في عروقي مجددا
وأردف قائلا : لكن إصابته ربما تكون خطرة نوعا ما
فعاد الخوف يتسرب إلى أوصالي
وباغتني الضابط قائلا :
هيا بسرعة يجب أن نكمل المحضر وتتحول للتوقيف
وصفتُ له ما تذكرتُ من الحادث وأخذوني للتأكد من إصابة ركبتي التي كانت مجرد كدمات
وانتقلتُ إلى حبس التوقيف
كنتُ مذهولا لما آل إليه حالي في لحظة واحدة
وبدأتُ أفكر في أمي وإخوتي وما فعلته بهم وأيضا أبي الذي خذلته
فلم أكنْ أهلا لتحمل المسئولية
وبعد ليلتين لم أذق فيهما طعم النوم داخل التوقيف من التفكير فيما فعلتْ
تمَّ تحويلي على النيابة العامة في موقف لن أنساه
فقد جائوني منذ الصباح وقيدوا يدي وأخذوني للنيابة
وما كنت لا أشاهده إلا في التلفاز عايشته بنفسي
فالقاضي يسمع أقوالك والنائب العام يطالب بتوقيع أقصى عقوبة عليّ
وبعد أخذ ورد حكموا عليّ بالسجن إلى أن يأتيني تنازل
أو أن يخرج الشاب الذي صدمته سليما من المشفى
بعدها وفي مشهد لا يزال ماثلا أمام عيناي اللتيْن تلألأتا حينها بدموع أبتْ النزول
تمّ نقلي إلى السجن وطُلِبَ مني أخذ البصمات والصور وكأني أحد المجرمين
لحظات لا تُمحى من الذاكرة
دخلتُ بعدها وأنا في قمة الإنهيار النفسي إلى القسم المخصص بحبس المتهمين في قضايا مرورية
عندما فتح باب تلك الحجرة أحسسْتُ وكأني داخل إلى المجهول
إلى عالم لم أكن أحلم أن توصلني المواصيل له يوما
كانت حجرة كبيرة مظلمة بالكاد بها نافذة واحدة مشبكة وكانت مملوءة بالأسِرَّة
كان فيها خمس وعشرون شابا .. كلهم في ريعان الشباب وكلهم مدخنون للأسف
كان عالما غريبا ومكانا موحشا .. لا مكان فيه حتى لالتقاط الأنفاس
لا أعرف كيف مرَّتْ عليّ أول ليلة لي هناك
لم أكلم أحدا إلا بكلمات يسيرة فالصدمة كانت أكبر مني بكثير
وكان تفكيري منشغلا تماما بأهلي و الشاب الذي هو ربما بين الحياة والموت
ومصيري الذي لا يعلمه أحد إلا الله
أسئلة كثيرة كانت تدور بذهني
ماذا سيحصل للشاب ؟ .. وهل سأخرج من هنا ؟ .. وكم سأبقى في هذا السجن؟
كيف سيتدبر أهلي أمورهم ؟ .. وهل سيخبروا أبي ؟
تساؤلات لا حصر ولا إجابة لها
لا أعرف كيف نمتُ تلك الليلة لكني استيقظتُ على أصوات تقول لي : نوض كونتا نوض بسرعة
لم أفهم ولكن عرفتُ بعدها أن هناك مصطلحات جديدة يجب أن أتعلمها غير المصطلحات الطبية
من كونتا بمعنى أنهم يريدون عدّ المساجين وكازان بمعنى الماكلة وإدزانّا بمنعى إن كل أربع مساجين
يكونون مثل المجموعة يأكلوا فطورهم وغذائهم وعشائهم مع بعض وغيرها من الكلمات
كان عالما غريبا بالنسبة لي
ولكن سرعان ما ألفتُ المكان وتعرفتُ على بعض الشباب معنا
وتبادلنا القصص التي أوصلتْ كل واحد منا إلى مثل هذا المكان
كانت قصصا مروعة من حوادث المرور
فهذا شاب لم يتجاوز عمره التسعة عشر سنة له شهر ونصف في السجن دهس طفلا بسيارة غير مؤمنة
وأهل هذا الطفل الذي توفي لا يريدون أن يتنازلوا مهما حصل
وذاك رجل في الخامسة والثلاثين أب لثلاثة أبناء له في السجن ثمانية أشهر يسمونه هناك " الكابّو "
بمعنى أن أفراد الشرطة تعتبره مسؤلا في القسم عن ما يحصل فيه
دهس عجوز مسنّة أيضا بسيارة غير مؤمنة وأهل الفقيدة يطالبون بمبلغ أربعين ألف دينار وهو لا يملك حتى عشر المبلغ
وآخر تسبب في وفاة عائلة بأكملها نتيجة سرعته التي تجاوزت 160 كما قال
وتسبب له الحادث في ندوب عديدة في وجهه وجرح كبير في رقبته
وآخر .. وآخر
سمعتُ قصصا مؤلمة لمآسي الحوادث في بلادنا
مرّتْ أيام وبدأتُ أمَلُّ من وحشة المكان رغم أني ألفْته نوعا ما
فهو في النهاية سجن وأربع جدران
لكن ولله الحمد بدأت الأخبار المفرحة تصلني بأن الشاب تحسنتْ حالته
وسيخرج قريبا من المستشفى
واستمرتْ معاناتي إلى أنْ جاء يوم خروجي بعد أيام صعبة
بكل ما تحمل الكلمة من معنى
مأساة
حمدتُ الله كثيرا أنها انتهتْ إلى ما انتهتْ عليه
فأنا وأخي لم نُصَبْ بأذى والشاب الذي صدمته لم يمتْ او يصَبْ بعاهة لا سمح الله بل شفيَ تماما من إصابته ولله الحمد
وعمود الكهرباء الذي صدمته كُسِرَ ولم يسقط على أحد مثلا
فالحمد لله الذي لَطَفَ بي في هذا الحادث
والحقيقة خرجتُ من هذه التجربة رغم إيلامها بعدة فوائد
فأصبحتُ أكره السرعة ولا أتجاوز أبدا السرعات المحددة
فالسرعة لن توصلك إلى ما تريد في وقت أسرع
بل أنتَ لن تصل إلا في الوقت الذي كتبه الله لكَ .. فلِمَ العجلة؟!
وأيقنْتُ أن الحادث يحدث في لحظة إهمال
فيجب على الإنسان أن يركز جيدا عندما يقود السيارة
فبإهمال بسيط قد تعرض نفسكَ وأرواح الآخرين للخطر
وغيرها الكثير من الدروس التي استفدتها من تجربة أقل ما يمكن القول عنها
أنها كانت بحق
( تجربة أليمة )